د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
هل يمكن للجنِّ أن تقتل مسلمًا؟![هل يمكن للجنِّ أن تقتل مسلمًا؟](http://video.islamstory.com/index.php/images/upload/content/5536624431ء.png11111111111111111.png)
الجنُّ عالم متكامل يعيش إلى جوار الإنسان على الأرض، وحوله في السماء، ونحن لا نراه، لكنه يرانا، ومنهم الكافر، ومنهم المؤمن، وبعضهم يتداخل معنا في الحياة، سواء بإرادة الإنسان، أو رغمًا عنه.
ونحن نؤمن بذلك مع كوننا لا نراه؛ لأن الله تعالى أخبر به في كتابه، وكذلك فعل الرسول ﷺ في أحاديثه، وهناك مواقف في السيرة حدث تداخل بين العالمـَين: عالم الإنس، وعالم الجن، وقد يتطور الأمر، ويحدث صراع، وقد ورد أن الجن قتلت مسلمًا على عهد رسول الله ﷺ، ولذلك قصة وردت في الصحيح.
روى مسلم عن أَبِي السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ (أعواد) فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ. فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِه (غرز الرمح فيها)، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْه (تحرَّكت على غير نظام ولدغته)، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ وَقُلْنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»[1].
وفي رواية لمسلم: وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ صَيْفِيٍّ، وَقَالَ فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ[2]، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْهَا فَحَرِّجُوا[3] عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِنْ ذَهَبَ، وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ» وَقَالَ لَهُمْ: «اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ»[4].
وروى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْجِنُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ»[5].
من الحديث أخذنا عدة أمور:
أولًا: عالم الجن موجود وإن كنا لا نراه، وهو يتداخل أحيانًا مع عالم الإنس.
ثانيًا: هذه القصة، وإن كانت موجودة في السيرة، إلا أنها نادرة، وهناك بعض القصص الشبيهة، ولكنها في العموم معدودة، والأصل هو عدم التداخل بين العالمـَين، والأصل كذلك أن كثيرًا من الحيات هي حيات طبيعية.
ثالثًا: القتيل في القصة رجل صالح، وليس بالضرورة أن يكون قد ارتكب منكرًا، أو ابتعد عن الله تعالى، أو أهمل الأذكار حتى يحدث له ذلك، ولكنه ارتكب خطأ شرعيًّا بقتل الحية قبل إيذانها ثلاث مرات، أو ثلاثة أيام، وهو إما جاهل بالحكم، وإما ناسٍ له، وقد شاء الله ذلك ليقع قدر الله فنعرف القصة.
رابعًا: فهم بعض الفقهاء أن هذا خاص بالمدينة فقط، وفهم آخرون أن الأمر عام على حيات البيوت كلها، واتَّفق الجميع على أن هذا لا يشمل حيات الصحاري والشوارع، واختلفوا كذلك في الإنذار هل هو ثلاثة أيام أم ثلاث مرار.
خامسًا: لا يشمل الإنذار أنواع معينة من الحيات تدخل البيوت؛ ففي البخاري عن أَبِي لُبَابَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لاَ تَقْتُلُوا الجِنَّانَ، إِلَّا كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ[6]، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الوَلَدَ، وَيُذْهِبُ البَصَرَ فَاقْتُلُوهُ»[7].
سادسًا: ينبغي الحذر بشكل عام من إيذاء الجن: ويكون هذا بالتسمية قبل فعل الأشياء، وذكر بعض العلماء -كابن تيمية- ذلك عند سكب الماء الحار، وخاصة في دور الخلاء لأنها مساكن الجن، كما ينبغي قبل دخول الحمام أن تقول دعاء دخول الخلاء: ففي البخاري عن أَنَسٍ t، قال: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ»[8]، ولا ينبغي أن تستخدم طعام الجن: وفي الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ، وَلَا بِالْعِظَامِ، فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ»[9].
سابعًا: أذن اللهُ تعالى للجن في هذه القصة أن تقتل المسلم لأن هذا موعد أجله، ولا رادَّ لقضاء الله، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، ولو لم يكن النبي ﷺ موجودًا ما عرفنا أن الجن وراء حادث القتل، مما يعني أن هذا موجود في عالمنا ولا نراه، وكلٌّ في النهاية بإذن الله. قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].
ثامنًا: ينبغي على المسلم أن يتحصَّن بالأذكار والمعوِّذات من الجن، مثل آية الكرسي، والمعوِّذات، وبعض الأذكار، وسنفرد لها حلقة خاصة إن شاء الله.
تاسعًا وأخيرًا: القصة كلها مبنية على العقيدة السليمة، والإيمان بالغيب، والتصديق بقول النبي ﷺ على غرابته، وهذا هو بيت القصيد في القصة[10].
[1] مسلم: كتاب السلام، باب قتل الحيات وغيرها (2236)
[2] جن يعمرون البيوت
[3] قال ابن الجوزي: أَي قُولُوا: أَنْت فِي حرج -أَي فِي ضيق- إِن عدت إِلَيْنَا، فَلَا تلومينا أَن نضيق عَلَيْك بالطرد والتتبع.
[4] مسلم: كتاب السلام، باب قتل الحيات وغيرها (2236).
[5] الحاكم في المستدرك (3702)، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تعليق الذهبي في التلخيص: صحيح.
[6] الطُفْيَة: خط أبيض على ظهر الحيَّة
[7] البخاري: كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة (3311).
[8] البخاري: كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء (142).
[9] الترمذي، باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به (18)، وقال الألباني: صحيح.
[10] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك